مادة اللغة العربية: تأملات على الساحل /إدريس الجاي - السنة الثانية بكالوريا/مسلك الآداب

Publié le par كمال بن محمد أحود

أولا: تـأطـير الـنص:

دخل الشعر العربي ، منذ عشرينيات القرن الماضي، مرحلة جديدة هدفت إلى تحديث  القصيدة العربية  وتجديدها شكلا ومضموناً، وعمل على مسايرة التحولات الكثيرة التي شهدها العالم العربي في كافة المجالات، و بفضل تأثر بعض الشعراء العرب بالشعر الرومانسي الغربي، واطلاعهم على أهم نماذجه المكتوبة باللغتين الإنجليزية والفرنسية خصوصا، فقد جاءت أشعارُهم  متحرِّرة ،وإن بدرجات متفاوتة، من تقاليد القصيدة العربية القديمة، ومفعمة بالرغبة في التجديد، وتجاوز حدود التقليد والمحاكاة والمعارضة إلى آفاق شعرية وإبداعية أكثر التصاقا بوجدان الشاعر وذاته، رغم الأوضاع السياسية السيئة القائمة بفعل استمرار الاستعمار الغربي وتبعاته السياسية والاقتصادية والثقافية، وتردي الوضع الاجتماعي الذي طغت عليه مظاهر البؤس والفقر والجهل والأمية والاستبداد وتفاقم التمييز الطبقي الصارخ بين أبناء المجتمع الواحد، دون أن ننسى تماسك التيار المحافظ المتحكم في دواليب الحياة العامة، وهيمنة النقد التقليدي المتعصب للقديم، كما يشير إلى ذلك المعداوي في "ظاهرة الشعر الحديث".

ويجمع الباحثون والدارسون للشعر العربي الحديث على أن التيار الذاتي مثلته ثلاث جماعات شعرية انطلاقا من سنة 1921 إلى سنة 1932، وقد كانت تواليا:

  1. جماعة الديوان: ( العقاد وشكري والمازني).
  2. الرابطة القلمية/ شعراء المهجر: (ميخائيل نُعيمة وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي...)
  3. جماعة أبولو: (أحمد زكي أبو شادي وعلي محمود طه وأبو القاسم الشابي وإدريس الجاي...)

وقد ساهم الشعراء المغاربة في هذه المسيرة التجديدية من خلال أصوات شعرية افتتنت بالتجربة الوجدانية في الشعر العربي، وبخاصة مع جماعة أبولو وكان بينهم الشاعر إدريس الجاي صاحب قصيدة (تأملات على الساحل) ، التي تعلن عن انتمائها إلى الاتجاه الوجداني من شكلها الطباعي، إذ انتظمت في خمسة مقاطع شعرية اختلف رويها وقافيتها، ولم يصرع مطلعها ولكن تعددت الأبيات المدورة فيها. ويحيل عنوانها الذي جاء جملة اسمية مكوَّنا من لفظتين: "تأملات" الدالة، في إطار الشعر الوجداني، على الذات الفردية القائمة بفعل التأمل كنشاط عقلي، وما يمثله من طقوس الملاحظة والتفكير الهادئ المؤدي إلى استخلاص الدروس والعبر، ولفظة "الساحل" المحيلة على الطبيعة/ الفضاء الذي يحدث فيه هذا التأمل في الذات ومعاناتها ، والمتسم بالشساعة والانفتاح وامتداد الأفق.

فما مظاهرُ حضور الذات في النص؟ و إلى أي حد تمثل هذه القصيدة الاتجاه الوجداني من حيث خصائصها المضمونية والفنية؟

 ثانيا-  الفهم:

        ا- تكثيف المضامين:

ينطلق الشاعر في هذا النص، الذي تتوزعه خمسة مقاطع، من وصف حالته النفسية الحزينة ،و قلقه و حيرته أثناء وقوفه على الساحل خاشعاً، يتأمِّل الطبيعة  ويناجيها مستنجدا بها، مختليا بنفسه ، فاراّ من الحياة و الناس ،وتحت ضغط حزنه قصد شاطئَ البحر حيث الهدوء و السكونُ ليَتوَحّد معه،  ويذوب في أحضانه، و ليشكوه أحزانَه وآلامه ،آملا أن يُخفِّف عنه معاناتَه، لكن البحر لا يتفاعل مع حالة الشاعر، بل يزيد من حيرته وقلقه،

و حين عجز عن تجاوز همومه النفسية والفكرية ارتد إلى مخاطبة ذاته بسبب ما يعيشه من تجاذب بين قديم أحزانه وجديدها، وبسبب صمت الطبيعة المطلق، وعدم إجابتها على أسئلته القلقة والحائرة، والتي وصلت حد الشك والتساؤل عن مكمن اليقين، وهو ما أدى به إلى الاستسلام لها، ومشاركتها صمتها وسكونها.

 والواقعُ أن القصيدة قامت على جملة من المعاني الوجدانية (التعبير عن تجربة الشاعر الذاتية وتأمله فيها) مما حقق لها وحدتها الموضوعية والعُضوية،

ومكن الشاعر من نسج عناصر رؤيته للذات، وهي تحاول التفاعل مع محيطها، عن طريق الهروب إلى الطبيعة، وجعل هذه الطبيعة المرآة الوجدانية التي تعكس نفسيته، وتنقل إلينا كل ما ينتابه من حزن وقلق وانكسار وحيرة.

     ب_معجم النص:   

وقد تجسّدت هذه المعاني في النص من خلال هيمنة حقلين دلاليين أساسيين على معجمه هما:

حــقـل الـذات الشاعـرة

حــــقـل الـطـبـيـعـة

وقفت - خَشوعاً - أناجي - غصني - وحيداً - تأوّهت - أذهل - خلوت – أسائل- أراقب – حملقت –حولي – نسي.. .

الساحل - الرمال - الثمار - الشاطئ - البحر - النجوم – الليل – الظلال- اليم - الموج...

ورغم هيمنة حقل الذات على معجم النص، فقد قامت بين الحقلين علاقة ترابط وتفاعل واضحة كشفت عن تحولات الذات الشاعرة وهي تنتقل من مرحلة التأمل في وضع الذات ومعاناتها إلى حالة قصوى من التوتر والقلق والشك، ثم تنتهي إلى وضعية السكون، والاستسلام والحلول في الطبيعة كما يدل على ذلك مضمونُ المقطع الأخير من النص.

       ج- الخصائص الفنية للنص:   

وإذا كان معجم النص يكشف عن علاقة الشاعر بالطبيعة، فقد تميزت لغة القصيدة بالبساطة والوضوح، ونهلت من تجربته الوجدانية، ومن معجم الطبيعة، وابتعدت عن المعجم الشعري القديم، و هذه خاصية لغوية جديدة تميز بها الشعر الذاتي، إضافة إلى الخصائص التالية:

  1. -البنية الإيقاعية:

إيقاعيا، نَظَمَ الشاعـر قصيدته على وزن بحر المتقارب، الذي يقوم على تكرار تفعيلة "فعولن" أربع مراتٍ في الصدر، ومثلها في العجز، و يناسب وزنه - إلى حد كبير - موضوع القصيدة ، وفي مقابل وحدة الوزن نوَّع الشاعر الروي والقافية؛ بحيث جاءت قافية المقطع الأول و الرابع  والخامس مقيّدة مُردفة، و جاءت قافية المقطعين الثاني و الثالث مقيدة غير مُردفة، ويأتي تنوّع قوافي القصيدة تابعاً لتعدد معانيها ولطبيعة الحالة الشعورية، والنفسية للشاعر، بينما تنوعت أحرف الروي بين اللام (المقطع الأول)،و الراء(المقطع الثاني) والميم (المقطع الثالث)،والنون(المقطع الرابع) ،والعين(المقطع الخامس)، وهي أحرف متقاربة المخارج تناسب موضوع القصيدة، وتلائم حالة الشاعر الوجدانية.

أما إيقاع النص الداخلي فتميز بحضور التَّكْرار بكل أنواعه في النص؛ إذ تكررت فيه جملة من الأصوات المهموسة( س، ش، ص، ه، ب...) والتي تكشف عن حالة الشاعر الوجدانية الحزينة، وعن نفسيته المنكسرة، وتكررت ألفاظ مثل: (الشاطئ - سكون - الصدى- الليل- أين...)،كما تكررت عبارات من قبيل (أهذا من الأمس ذكرى؟- هدأة الليل – الليل داج...)، ويقوم التكرار في النص بوظيفة دلالية تتمثل في تأكيد معاني القصيدة وترسيخها في الأذهان، وبوظيفة إيقاعية تتجلى في خلق انسجام صوتي داخل القصيدة يغني إيقاعها الداخلي، و قد أسهمت في تأدية هذه الوظيفة كذلك ظاهرة التوازي، ومن أمثلتها في النص التوازي التركيبي التام الوارد في البيت الثاني عشر.

  1. الصور الشعرية:

وللتعبير عن تجربته الوجدانية اعتمد الشاعرُ على عدد من الصور الشعرية، ابتعد فيها عن الوصف المادي المباشر، وجعلها صورا تتغذى من خياله الواسع، ومن حالته النفسية والوجدانية المفعمة بالانكسار، والقلق، (أناجي الرمال ـ تعفن من غصني الأصفر...- لاذعات الفكر..)، وجاء بعضها قائما على التشبيه (بِتُّ كالساحر أبَخّر من همَساتِي العِطَر)،حيث شبه البخار المنبعث من جسمه البارد بالدخان المنبعث من البخور التي ينثرها الساحر على الجمر، وبعضها الآخر جاء قائما على الاستعارة كتلك الواردة في البيت الخامس عشر (فكان الصدى أخرساً لا يَبين)،حيث حذف المستعار منه(الإنسان)وأشار إليه بأحد لوازمه(أخرسا لا يبين)، ووظف الصورة لإبراز مدى عزلته، وعدم تجاوب الطبيعة معه، وبعضها قائم على المجاز المرسل كما في البيت الثالث (أصيد من الوَهْم عاتيَ الخيال)،وقد قامت الصور بوظيفة نفسية عكست تحولات حالة الشاعر النفسية والوجدانية، ومارست تأثيرها على المتلقي، وبوظيفة تأثيرية ساهمت في تحقيق التناسب الوجداني بين حالة الشاعر الانفعالية وموضوع الصورة، وأخيرا بوظيفة تخييلية كانت عامل إشراك للشاعر والمتلقي في دلالة النص، وجعله نابضا بالروح والحياة، وبالأحاسيس المشتركة بينهما، وهذا ما أضفى عليها بعدا ذهنيا جديدا.

  1. أسلوب النص:

 وبالموازاة مع هذه الصور، فقد زاوج  الشاعر بين الأسلوب الخبري - و هو المهيمن في القصيدة ـ بسبب رغبته في إخبارنا بمعاناته، و بما يختلج في نفسه من أحاسيس وعواطف وأفكار، والأسلوب الإنشائي المتمثل في الاستفهام الوارد في المقطعين الثالث و الرابع للتعبير عن قلقه و حيرته  وتمزقه النفسي.

ثالثا-التركيب والاستنتاج:

إن تحليلنا للنص، ووقوفنا على مضامينه، و خصائصه الفنية، و الإيقاعية يظهر لنا الحضور القوي لذات الشاعر في القصيدة، وتعبيره فيها عن تجربته الوُجدانية المتمثلة في حيرته ،و قلقه ، وتمزُّقه ،و علاقته بالطبيعة المُحيطة به، والتي لم تتفاعل معه إيجابا حين تركته وحيدا مع أحزانه وتأملاته، ومع ذلك شكلت ملاذاً له من شر الواقع  وقسوة الحياة ، و بهذا فقد ابتعدت القصيدة عن الأغراض التقليدية المعهودة في الشعرين القديم والإحيائي، وعن تعدد المواضيع ،واعتمدت  - للتعبير عن الذات - معجماً متحرراً من جزالة لغة الأقدمين  وفخامتها، و صوراً فنية تنهل من التجربة الذاتية للشاعر، لا من الذاكرة ،رغم الحضور الملحوظ للصور البيانية القائمة على التشبيه والاستعارة والمجاز ، كما اعتمدت إيقاعاً موسيقياً حافظ على بعض أصول القصيدة العربية القديمة (كوحدة الوزن، ونظام الشطرين)، وخَرَق أصولاً عروضية أخرى من قبيل عدم التقيُّد بوَحدة القافية و الروي، وإن كان هذا الخرق لا يعدو كونه تنويعا داخل القديم، وليس تجديدا كليا يكسر البناء العروضي والإيقاعي القديم كما ستفعل ذلك حركة الشعر الحر لاحقا.

 بناء على كل ما سبق فإن هذه القصيدة تمثل الشعر الوُجداني أحسن تمثيل لأنها تمثلت خصائصه المضمونية والفنية، وخصوصا على مستوى الوحدة العضوية  والنفسية للنص، وإن استمرت تقليدية على مستوى بنيتها الإيقاعية، والشكلية.

 

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article