إنشاء أدبي النص الشعري سؤال الذات

Publié le par OUHOUD

إنشاء أدبي

النص الشعري

سؤال الذات

 

تأطير النص في سياقه الأدبي والثقافي العام:

                لم تكن التحولات التي شهدها المجتمع العربي بعد بداية العقد الثاني من القرن العشرين، بالظروف المواتية لاستمرار تجربة البعث والإحياء بالنفس الذي انطلقت به، الأمر الذي هيأ لفئة من الشعراء الشباب أن يعلنوا عن أنفسهم، هم الذين اطلعوا على الآداب الغربية في مضانها، في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مع فيكتور هوجو وشكسبير وشليجل وغيرهم، كما أن انتشار الحركات التحررية من جهة أخرى ساهمت في سرعة التحول نحو الاتجاه الوجداني في شعرنا العربي الحديث.

 وقد كان رواد الرومانسية الغربية لهؤلاء الأدباء الشباب، القدوةَ والنموذجَ لأنهم صادفوا هوى في نفوسهم تمثل في ثورتهم على ما أحاط به البعثيون القصيدة العربية من قيود ومن تهميش لذات الشاعر، فرفعوا شعار أن الشعر وجدان، حتى قال العقاد قولته الشهيرة:" الشاعر الذي لا تعرف حياته من شعره ليس بشاعر وإن كانت له عشرات الدواوين"، لقد أطلق الوجدانيون العنان لخيالهم ولجأوا إلى الطبيعة فبثوها لواعجهم وآلامهم. وكان العقاد أول من أسس لمجموعة دعت إلى الثورة على طريقة القدماء في قرض الشعر، وكانت هي جماعة الديوان، التي انضم إليه فيها كل من المازني شكري، فتلتها جماعة الرابطة القلمية (شعراء المهجر) على يد نُعيمة وجبران، ثم جاءت بعدهما جماعة أبولو التي أسس لها الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي. ورغم أن هذه الجماعات الثلاث تنطلق من أن الشعر وجدان فإنها تختلف في تحديد مفهومه.

لقد عملت هذه الجماعات على انطلاقة جديدة للقصيدة العربية سعت خلالها إلى التخلي على كثير من خصائص القصيدة التقليدية وبخاصة على مستوى المضمون الشعري. ولا شك أن النص بين أيدينا بالنظر إلى عنوانه وصاحبه (أحمد زكي أبو شادي) ولغته، سيكون تمثيليا لهذا الخطاب الشعري، التجديدي والذي عرف عندنا بأسماء منها الوجدانية والرومانسية والابتداعية. فما هي خصائص هذا التيار الشعري كما تمثلت في قصيدة أبي شادي، وما هي أهم العناصر التي طالها التغيير بين هذه القصيدة والقصيدة البعثية، وهل استمرت فيها بعض مظاهر المحافظة؟

وقبل الانتقال إلى تكثيف مضامين قصيدة موت وحياة، لا بد من الإشارة إلى أنها على مستوى الشكل، لم تختلف على ذلك النمط المألوف في شعرنا والمتمثل في وحدة الوزن والقافية والروي، إضافة إلى تصريع المطلع.

  استهل أبو شادي قصيدته بالإشارة إلى أن موج البحر هيج آماله وبدد أحلامه وشوش عليه فكره، وإلى أن الشاعر تأمل موج البحر في حيرة وخوف حتى تجدد أحزانه ورأى في انكسار الموج وتلاشيه صورة نهايته حتى أن الشاعر تخلى لهول ما رأى، عن موهبته وعن آماله.

وختم الشاعر القصيدة بالتأكيد على أن هذه الحياة المادية لا تليق به لأن مكانه في عالم الأفكار والجمال.

لا بد أننا لاحظنا كيف أن الشاعر في قصيدته لم ينتقل بين موضوعات مختلفة كما فعل سلفه من البعثيين، بقدر ما كانت القصيدة موحدة الموضوع من البداية حتى النهاية، وقد ارتبط الموضوع بذات الشاعر وما دل عليه البحر في القصيدة من حياة وموت، وقبل جرد بعض الألفاظ والعبارات الدالة على هذه الحقول لا بد من الإشارة أن معجم النص في عمومه كان معجما بسيطا.

وقد توزع المعجم إلى ثلاثة حقول دلالية هي:

  1. حقل ذات الشاعر: صرخة آمالي – أحلامي – تأملته – مهجتي – جهودي – غنمت بها روح الجمال...
  2. حقل الموت: بدد – تلتهم الصخر – تقاتل مثل الحظ – مت حولي – موتك مرآة...
  3. حقل الحياة: آمالي – دنيا جديدة – إحساسها العالي – روح الجمال – سمت عن الجسم...

يبقى أن نشير إلى أن العلاقة بين هذه الحقول هي علاقة تضاد بين حقلي الموت والحياة، وتكشف لنا الحالة النفسية المضطربة للشاعر.

وبهذا نكون قد وصلنا إلى تتبع بعض الخصائص الفنية، والتي سنستهلها بالبنية الإيقاعية الخارجية، التي أشرنا في تأطيرنا للنص بأنها لم تخرج عن الشكل التقليدي الذي عابه الوجدانيون على الإحيائيين، إلا أنه فرض نفسه عليهم بسبب هيمنة وسطوة النقد المحافظ كما أشار إلى ذلك المعداوي في كتابه ظاهرة الشعر الحديث، فالقصيدة جاءت متناظرة الشطرين مصرعة المطلع موحدة القافية والروي، وحتى نقف على البحر العروضي الذي اعتمده الشاعر في بناء قصيدته سنقطع مطلع القصيدة كالآتي:

 

أهـــــاج دويّ البـــحر صرخــــــةَ آمــــــــــــالي

  • - 0 - - - 0 – 0 – 0 - - 0 - - - 0 – 0 - 0

فعـــــول مفـــاعيلن فعــــــولن مفــاعيــــــــلن

وبــــدّد أحــــــــلامـــي وبلــــبل بلــــبــــــالي

  • - 0 - - - 0 – 0 – 0 - - 0 - - - 0 – 0 - 0

فعــــول مفــاعيـــــلن فعــــــول مفــــاعيـــلن

      

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الملاحظ إذًا أن الشاعر نطم القصيدة على البحر الطويل، وهو كما نعلم من البحور ذات النفس الطويل التي اعتمدها شعراء البعث والإحياء، وتقيد بكل العناصر التي ترتبط بالبيت الشعري في حدوده التقليدية سوى واحدة هي الوحدة العضوية، فالقصيدة جاءت موحدة الموضوع وكان ذا علاقة بوجدان الشاعر وعواطفه وهو ما يربط القصيدة بالتجربة الوجدانية.

أما على مستوى الإيقاع الداخلي، فالملاحظ أن أبا شادي قد وظف قليلا من التوازي كثيرا من أنواع التكرار، أولها تكرار الأصوات، وأولها صوت اللام (الروي) المكسور والموصول في كثير من الأبيات بمدٍّ) الياء، التي جعلت الكسرة تمتد أطول تعبيرا على نفسية الشاعر المنكسرة.

 ومن الأصوات المترددة في النص كثيرا، صوت الميم القريب من اللام، ونجده في: (آمالي – أحلامي – الأمواج – مِلْءَ – مثل – أمامها – منتهى – مطامحها – الآلام – مواهبي...)

وصوت الراء: البحر – صرخة – عمري – غريب – الفكر – الأخرى – مرآة – روح...)

ومن أنواع التكرار الأخرى في القصيدة تكرار التجانس من أمثلته: إقلالي/ إذلالي – بلبل/ بلبالي – موتك/ موتي...

وتكرار التطابق، ومنه: الأمواج – وجِل – حيرة – تالٍ – آمالي – جهودي - موتك... فهذه الكلمات تكرر ورودها في النص.

ثم نقف على بعض الطباق الوارد في القصيدة ومنه، حياة/ موت – جهود/ إقلال – آمال/ آلام – الأشم/ الإذلال...

أما التوازي، فمن أمثلته: جملتا الشطر الثاني من مطلع القصيدة: بدّد أحلامي/ بلبل بلبالي، فقد اتفقت الجملتان في التركيب والصيغ الصرفية، فكان التوازي تاما.

ومن أمثلته الأخرى، الجملتان في البيت الأخير: سمت على الجسم/ استولت على حبي الغالي، وهو كما نلاحظ غير تام لأن الجملة الثانية أكبر من الأولى.

وقد لعبت هذه التلوينات الصوتية والتوازي الموظفة، وظيفتين اثنتين، أولاهما وظيفة بلاغية لأن هذه التلوينات تندرج في إطار المحسنات البلاغية التي أضفت على القصيدة موسيقى خاصة. كما كانت لها وظيفة إيقاعية لأنها حافظت للشاعر على نفس المقاطع الصوتية التي تحافظ على البنية الإيقاعية الخارجية للنص، ثم إنها كانت متماهية مع الحالة النفسية التي يوجد عليها الشاعر.

ولا تخلو القصيدة من الصور الشعرية وقد توزع مكونها البلاغي بين التشبيه، كما في قوله: (كما طوح الدهر الخؤون بآمالي) أو في قوله: (كالغريب بعالم غريب) ثم في قوله: (موتك مرآة) وقد كان التشبيه في هذا المثال الأخير بليغا، والملاحظ أن كل الخيال لعب دورا كبيرا في هذه الصور، على عكس ما كنا نجده عند شعراء البعث الذين استمدوا صورهم من بيئة طبيعية، كذلك يحضر بالخيال في طرفي الصورة إذ كانا معا معنويين، ومن أمثلته أيضا: الأمواج تقاتل مثل الحظ، وهي أيضا صورة مستمدة من الخيال الجامح للشاعر.

وإلى جانب التشبيه، اعتمد الشاعر في بناء الصورة على الاستعارة، ومن أمثلتها في القصيدة، قول الشاعر في البيت الثاني: الأمواج تقاتل (حيث شبه الأمواج بالفارس فذكر المشبه وحذف المشبه به (الفارس) ورمز إليه بما يلومه (المقاتلة) على سبيل الاستعارة المكنية) وكان طرفا الصورة ماديين وبه كانت الصورة مفردة. ومنها أيضا: دفنت أسيفا عزيمتي، فالعزيمة ليست شيئا ماديا حتى يدفن، ولكن الشاعر أطلق العنان لخياله على عادة الوجدانيين.

وقد أدت جل هذه الصور الشعرية وظيفة تعبيرية استطاع الشاعر من خلالها الإفصاح عما في دواخله، فابتعدت الصورة عنده عن تلك الوظيفة التزيينة التي احتفى بها البعثيون، ولا يفوتنا التأكيد على أن هذه الصور في النص كانت أيضا تجسيدية، فقد رأينا كيف أن الشاعر يضفي على أشياء معنوية أو جامدة صفات إنسانية.

وإلى جانب الصورة الشعرية، نجد الشاعر ينوع في الأساليب الموظفة في القصيدة، بين الأساليب الخبرية كما نحدها ابتداء من البيت الأول إلى التاسع ثم نجده في الأبيات الحادي عشر والثاني عشر والرابع عشر والأخير، وقد ارتبطت بسرد الشاعر لتجربته الواقعية. أما البيتين العاشر والثالث عشر فقد اغتمد الشاعر الإنشاء الطلبي (النداء) الذي خرج عن معناه الحقيقي لأن المنادى غير عاقل.

والملاحظ أن كل هذه الأساليب وظفها الشاعر للتعبير عن وجدانه وأحاسيسه، وعملت على دفع الرتابة عن القصيدة.

ختاما، نؤكد على أن الشاعر أبا شادي، ورغم أنه اعتمد من حيث الشكل نفس الهيكل التقليدي المعتمد على تناظر الشطرين وتصريع المطلع ووحدة الوزن والقافية والروي، فإنه على المستويات الأخرى ابتعد كثيرا عن خصائص القصيدة التقليدية، فعلى مستوى اللغة، ابتعد كثيرا على المعجم التراثي فكانت لغته سهلة بسيطة، ولم يتوزع معجمه على تلك الموضوعات التقليدية المتعددة والمرتبة في مجملها بالغرض الشعري، وإنما ارتبط بالمجال الذي أولاه الوجدانيون اهتمامهم وهو الذات الشاعرة وبيئتها، لذا ركز الشاعر على عواطفه وأحاسيسه فانتقلت القصيدة عنده من الوحدة العضوية إلى وحدة الموضوع. كذلك اختلفت قصيدة أبي شادي من حيث الصورة الشعرية، فلم تكن تزيينية فقط، وإنما عبر بها الشاعر عن أحاسيسه ووجدانه وارتبط لذلك بتجربته الذاتية.

لقد ابتعد الشعراء الوجدانيون في شعرهم وتحديدا من حيث المضامين عن تلك القيود التي أحاط بها البعثيون أنفسهم، فعملوا على التجديد في الموضوعات، وإن ذهب بعض الباحثين إلى التأكيد على السلبية التي تميزت بها هذه التجربة الشعرية فرأوا بأنهم لم يكونوا سوى بكائين تركوا التأثير في واقعهم وفروا إلى الطبيعة التي بثوها شكواهم ولواعجهم، وهو ما وجدناه لدى شاعرنا في القصيدة قيد قراءتنا.  

  

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article